بعد كشفنا في البودكاست كيف استُخدم الإعلام كسلاح
في الحرب النفسية ضد اللبنانيين، ننتقل إلى ذراع خفيّة لكنها بالغة التأثير في هذا
المشهد الدعائي: الرقابةالعسكرية الإسرائيلية
من يكتب الرواية؟
في الكيان الإسرائيلي، لا تتحرك الكاميرات ولا تُنشر الأخبار إلا بعد المرور الإلزامي عبر الرقابة العسكرية، وهي الجهة التي تلعب دورًا محوريًا في إدارة الوعي الجماعي ضمن سياق الحرب النفسية والتضليل الإعلامي.لكن وظيفة هذه الرقابة لا تقتصر على حجب المعلومات "السرية"، بل تتوسع لتشمل إنتاج سرديات إعلامية تخدُم الأجندات السياسية والعسكرية، وتوجّه وعي الجمهور، داخل الكيان وخارجه، وفق مسارات محسوبة بعناية
تتمتع الرقابة
العسكرية في كيان الاحتلال إسرائيل بسلطة قانونية واسعة، تجعلها قادرة على فرض واقع
إعلامي موجّه. لكنها تثير جدلًا حقيقيًا حول التوازن
بين حماية الأمن القومي والشفافية
ففي الوقت
الذي ترى فيه السلطات أنها ضرورة أمنية، يرى المنتقدون أنها تحدّ من قدرة المجتمع على
الوعي النقدي وتقييم القرارات
معركة على الإدراك، قبل أن تكون على الأرض
باختصار، الرقابة العسكرية في الكيان الإسرائيلي ليست مجرد أداة للتحكم في المعلومات، بل هي عنصر أساسي في الحرب النفسية، حيث يتم توظيفها لتشكيل الإدراك الجماهيري والتحكم في الاستجابات العاطفية. هذه المنهجية تجعل الإعلام الإسرائيلي أداة من أدوات الصراع، حيث يتم من خلالها تعزيز الرؤية الاستراتيجية للحرب عبر التلاعب بالمصطلحات، وإدارة طريقة نقل الأخبار، وتوجيه الرأي العام داخلياً وخارجياً
في العصر
الحديث، لم تعد الحروب تُخاض فقط في ساحات القتال، بل امتدت إلى فضاء الإعلام، حيث
أصبح التحكم في السرديات أحد أهم أدوات المواجهة
فالرقابة العسكرية، كما ناقشنا
سابقًا، لا تقتصر على ضبط تسريب المعلومات، بل تلعب دورًا محوريًا في تشكيل
الرواية الرسمية للحروب والتأثير في الإدراك الجماهيري،هذه السيطرة الإعلامية لا
تهدف فقط إلى حماية الأمن القومي، بل تُستخدم أيضاً كأداة للحرب النفسية، تُعيد
تعريف الأحداث وتوجيه تفسيرها لدى الجمهور
لكن في عصر
تعددية المصادر وانتشار منصات التواصل الاجتماعي، بدأ هذا الاحتكار يتعرض لتحديات
جديدة. لم يعد الإعلام التقليدي وحده مسؤولًا عن صناعة السردية، بل بات المواطن
العادي، الذي يحمل هاتفًا ذكيًا، جزءًا من المشهد الإعلامي، حيث يشارك في توثيق
الأحداث ونشرها دون المرور عبر الفلترة الرسمية التي تفرضها الرقابة
العسكرية، هذا
التحول لم يكسر فقط هيمنة الإعلام الرسمي، بل أعاد تشكيل مفهوم الحقيقة في زمن
الحروب
هنا، نجد أن ما
طرحه جان بودريار في كتابه "حرب الخليج لم تحصل"يصبح أكثر أهمية، إذ يناقش كيف يمكن للإعلام أن
يخلق واقعًا افتراضيًا للحروب، حيث لا يتم نقل الأحداث كما هي، بل يتم تقديم نسخة
مُصاغة تخدم أجندات سياسية وعسكرية محددة. هذه الفكرة ليست مجرد نظرية فلسفية، بل
تنطبق على العديد من الحروب الحديثة، حيث يتحول دور الإعلام من التوثيق والمحاسبة
إلى صناعة السردية التي يُراد لها أن تسود
تمامًا، بهذا
الكتاب، لم يكن الإعلام يعكس الحرب كما وقعت، بل كان يبتكر نسخة بديلة أمام
الجمهور، تغيب التجربة الفعلية عن المشاهدين، وتوظف الأحداث وفق السياقات
المطلوبة
هذا الواقع لا يختلف كثيرًا عن الحروب الحديثة، حيث يتم التحكم في
الرواية الإعلامية، في جزء منها، عبر التضليل أو التوجيه، مما يجعل بعض عناصر
الحرب تبدو وكأنها مُفتعلة أو يتم تقديمها بطريقة تتناسب مع الأهداف العسكرية
والسياسية
في هذا السياق،
يصبح الإعلام الرقمي تحديًا حقيقيًا لهذا الاحتكار. فرغم أن وسائل التواصل
الاجتماعي لا تخلو من التضليل والمغالطات، فإنها فرضت نوعًا جديدًا من الرقابة على
الإعلام التقليدي، حيث أصبح الصحفيون والمؤسسات الإعلامية مضطرين لمواكبة تعددية
المصادر، ومجبرين على التفاعل مع الحقيقة التي يفرضها التوثيق الميداني الفوري. كل
مواطن يحمل هاتفًا بات بمثابة قناة إعلامية، مما غير قواعد اللعبة، وخفف من قدرة
القوى المسيطرة على التحكم المطلق بالسرديات الإعلامية
كيف يمكن للجمهور تجاوز هذه الاستراتيجيات وفهم الأحداث بعيدًا عن التحيز الإعلامي والتضليل الرقمي؟
في عصر التفاعل الرقمي، لا يمكن فصل تأثير الـ Engagementعن انتشار الأخبار المضللة والزائفة، حيث تؤدي Polarization(الاستقطاب الحاد) وFilter Bubbles(فقاعات التصفية) إلى جعل المستخدمين أكثر عرضة للمعلومات التي تتناسب مع معتقداتهم المسبقة، بغض النظر عن دقتها أو صحتها. عندما يُحاط الفرد بمحتوى يعكس وجهات نظره ويؤكد توقعاته، يصبح تقبّله للأخبار غير الدقيقة، بل وحتى التضليل المتعمد، أمراً أكثر سهولة، ما يخلق بيئة خصبة لتأجيج النقاشات العاطفية وتعزيز المحتوى الجدلي.
في النهاية، تظل الحرب الإعلامية عاملاً حاسماً في أي نزاع، حيث لا يُقاس النجاح فقط بالتفوق العسكري، بل أيضاً بالقدرة على صناعة السردية التي ستُحفظ عبر الزمن. ومع تطور الذكاء الاصطناعي ووسائل الإعلام الرقمية، يبدو أن هذه المواجهة ستأخذ مستويات جديدة، حيث سيكون الإدراك الجماهيري نفسه ساحة للصراع،وليس مجرد انعكاس له